/ الفَائِدَةُ : (30) /
18/10/2025
بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد واله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين. / الخارطة الفكريَّة لمسير البشر / إِنَّ ما ورد في بيان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « هبط جبرائيل على آدم عَلَيْهِ السَّلَامُ فقال : يا آدم ، إِنِّي أُمرت أَن أُخيِّرك واحدةً من ثلاثٍ فاخترها ودَع اثنتين ، فقال له آدم : يا جبرئيل ، وما الثَّلاث ؟ فقال : العقلُ ، والحياءُ ، والدِّينُ ، فقال آدم : إِنِّي قد اخترتُ العقل. فقال جبرئيل للحياء والدِّين : انصرفا ودعاه ، فقالا : يا جبرائيل إِنَّا أُمرنا أَن نكون مع العقل حيثُ كان ، قال : فشأنكما وعرج » (1) برهانٌ وحيانيٌّ دالٌّ على جملة نُكَت ، منها : أَوَّلاً : أَنَّ الإِنسان ـ بل والملك والجن ، بل جملة عَالَم الاِمْكَان ـ بناء ثلاثي الأَضلاع ، قائم على (العقل والحياء والدِّين). فسفينة الكمال والوسام المُعتدل والرَّمز العادل المستقيم للكمال والمعرفة والهداية لكافَّة المخلوقات : ثلاثيَّة هذه الأَضلاع . وعليه : فهذا البيان الوحيانيّ الشريف يُمَثِّل الخارطة الفكريَّة لمسيرة عَالَم الاِمْكَان ومنه الفكر البشري. ثَانِياً : أَنَّ المعرفة لا تستقيم إلَّا بهذه الأَعمدة الثلاثة ؛ فإِذا أُريد بناء وتشييد واستقامة المعرفة البشريَّة فلابُدَّ من الْاِسْتِنْجَاد والتَّشَبُّبِ بالعقل النَّظري والعقل العملي ، والعلوم الذَّوقيَّة الوجدانيَّة ، وهداية الوحي ، وإلَّا فسينجم سقوط وانهيار معرفي شَاء الإِنسان أَم أَبَى . وعليه : فمَنْ يظنُّ أَنَّ الْعِلْمَ منحصر بالوحي حَسْب دون العلوم الكسبيَّة فقد زلَّ وغوى ؛ فإِنَّه وإن ورد في بيان قوله تعالى : [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ](2)، لكنَّ تحصيل ذلك لا يَتِمّ إلَّا أَن تكون للإِنسان أَرضيَّة وقابليَّة ـ من خلال العلوم الكسبية ـ لتلقِّي علوم الوحي ، فإِنَّه إِذا لم تكن تربة صالحة فما الفائدة من نزول ماء ومطر الْعِلْم . ومنه يتَّضح : ما ورد في بيان سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ : « الْعِلْمُ نُورٌ يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه » (3) ، فأَنَّ الَّذي يحبه الله ، ويَقْذِف في قلبه ذلك النور ، ذلك الشَّخص الَّذي لديه جَدّاً واجتهاد في تحصيل العلوم الكسبيَّة. وبهذا يتَّضح : أَنَّ ما ورد في بيان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ـ : « ... فقال جبرئيل للحياء والدِّين : انصرفا ودعاه ، فقالا : يا جبرائيل إِنَّا أُمرنا أَن نكون مع العقل حيثُ كان ...» ـ ليس معناه أَنَّ الدِّين تابع ، بل معناه : أَنَّ الدِّين يحتاج إِلى أرضيَّة صالحة يهبط عليها ، وهي العقل ، فإِنَّه مبدأ عمارة كمال الإِنسانيَّة. وكثير من الفرق التي يدبُّ فيها الْاِنْحِرَاف والزَّيغ والشَّطط والْاِبْتِعَاد عن جادَّة واستقامة الدِّين يظنُّون : أَنَّهم بالرِّياضات الرُّوحيَّة والأَذكار والعبادات يصلون إِلى كلِّ شيءٍ ، لكنَّه اتَّضح : أَنَّ من يقصي أَو يبعد دور العلوم الكسبية ويدعي : أَنَّ جميع العلوم لدنيَّة وإفاضات نوريَّة فهو يعيش سرح الخيال ، وهكذا مَنْ يُبعد الوجدان ، فإِنَّه اتَّضح أَيضاً : أَنَّ الإِنسان قائم بأَجهزة ثلاثة : جهاز العقل النَّظري والعملي ، وجهاز الوجدان والقلب ، وجهاز الْاِسْتِرْشَاد بالوحي. وعصارة القول : أَنَّ هذا الحديث الشَّريف دالٌّ على قضايا مُهِمَّة ، منها : 1 ـ إِنَّه برهانٌ وحيانيٌّ لبيان النظم التَّراتبيَّة بين أُمور ثلاثة ـ العقل ، والحياء ، والدِّين ـ . 2 ـ إِنَّه برهانٌ وحيانيٌّ أَيضاً دالٌّ على ضرورة معيَّة هذه الثَّلاثة . وعليه : يكون مقتضى الجمع بين هذا الحديث الشريف وحديث الثقلين : أَنَّه لاَبُدَّ من انضمام العقل والحياء إِلى الثقلين ـ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ ، وَالسُّنَّةِ الشَّرِيفَةِ ـ . وصلى الله على محمد واله الاطهار . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) أُصول الكافي ، 1/ كتاب العقل والجهل/10 / ح2. (2) النحل : 89. (3) الوافي ،1 : 7